بذور صور... حين تزرع النساء الحياة رغم الحرب

في قضاء صور، لا تنتظر النساء نهاية الحرب لتبدأن من جديد. إنهن تزرعن الآن، في قلب النزوح، بشغفٍ ووعي وكرامة، تربّين الشتول كما تربين الأمل.

فاديا جمعة

بيروت ـ في قلب الجنوب اللبناني، وتحديداً في قضاء صور، تنبت قصة استثنائية لنساء لم تنكسرن تحت وطأة الحرب، بل واجهن النزوح بالبذور والتراب والكرامة، فبينما ما زالت قرى بأكملها مدمّرة، وأسر عديدة لم تعد إلى منازلها، تولد مبادرة "بذور صور" كمساحة حياة ومقاومة ناعمة، تقودها النساء النازحات من المناطق الحدودية.

 

من النزوح إلى الإنتاج

منذ بدء الهجمات الإسرائيلية على جنوب لبنان في تشرين الأول/أكتوبر 2023، اضطرت آلاف العائلات إلى ترك منازلها وقراها الواقعة على خط النار، واللجوء إلى البلدات والمدن الساحلية الأكثر أماناً، بينهن نساء فقدن الأرض، البيت، والمورد، لكن لم يفقدن إرادتهن في العمل والبناء.

في هذا السياق، أطلقت وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات قضاء صور، بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، مشروعاً زراعياً يُعيد ربط النساء بأرضٍ وإن كانت جديدة، فهي تفتح لهن أبواباً للاستقرار والعمل والدخل الكريم.

 

نساء تزرعن العودة

"بذور صور" ليس فقط مشروعاً زراعياً. هو مسار تمكين اقتصادي واجتماعي، يبدأ بتدريب النساء النازحات على الزراعة العضوية، العناية بالمشاتل، إنتاج المونة، والعمل في مطبخ مجتمعي يخدم مئات العائلات المتضررة. مقابل عملهن، تحصل النساء على بدل يومي يعزز استقلاليتهن، ويوفر لهن مورداً يعينهن في ظروف النزوح القاسية.

لكن الأهم من ذلك، أن المشروع يخلق شعوراً عميقاً بالانتماء، ويمد النساء بوسيلة ملموسة للمقاومة اليومية، بعيداً عن السلاح، وبالقرب من الأرض.

 

استدامة تتجاوز الطوارئ

في ظل الأزمات المركبة التي يمر بها لبنان، من الانهيار الاقتصادي إلى النزاع الحدودي، تصبح الاستدامة شرطاً أساسياً لأي تدخل تنموي. ما يُميّز مشروع "بذور صور" هو أنه لا يقتصر على مرحلة الإغاثة أو المعونة المؤقتة، بل يضع أسساً لمستقبل زراعي منتج يمكن أن يستمر حتى بعد توقف التمويل الخارجي.

إذ تمكّنت النساء من إنشاء مشاتل قابلة للنقل معهن إلى قراهن عند العودة، ويُشجّع تشكيل تعاونيات تضمن تسويق الإنتاج واستمرارية العمل، كما تُوفر لهن مهارات تبقى معهن مدى الحياة.

 

الحاجة للاستمرار والتوسّع

لكنّ الحاجة ما زالت أكبر من المشروع. آلاف النساء ما زلن نازحات، بعضهن فقدن أزواجهن أو مصادر رزقهن، وتعشن اليوم في بلدات مثل صور والرشيدية والبرج الشمالي دون وضوح في المستقبل. التوسّع في هذه المبادرات، وربطها بخطط زراعية وطنية وسوقية، هو السبيل لتحقيق الأمان الاقتصادي والاجتماعي لهن.

"بذور صور" ليست مجرد خضروات تُزرع، بل هي بذور كرامة وحقوق، واستثمار حقيقي في الإنسان، تحديداً في النساء اللواتي تصنعن الحياة من تحت الركام.